الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر عند ابن سيرين الذين يُصرعون إذا قرئ عليهم القرآن، فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطًا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن رمى بنفسه فهو صادق.وقال أبو عمران الجوني: وعظ موسى عليه السلام بني إسرائيل ذات يوم فشقّ رجل قميصه، فأوحى الله إلى موسى: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فإني لا أحبّ المبذرين؛ يشرح لي عن قلبه.الثالثة: قال زيد بن أسلم: قرأ أبيّ بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقّوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة» وعن العباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتَّت عنه خطاياه كما يَتحاتُّ عن الشجرة البالية ورقُها» وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرّمه الله على النار» وعن شهر بن حَوْشَب عن أم الدرداء قالت: إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة، أما تجد إلا قشعريرة؟ قلت: بلى؛ قالت: فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب.وعن ثابت البُنَاني قال قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي.قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي.يقال: اقشعر جلد الرجل اقشعرارًا فهو مقشعر والجمع قشاعر فتحذف الميم، لأنها زائدة؛ يقال أخذته قشعريرة.قال امرؤ القيس:
وقيل: إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته، اقشعرت الجلود منه إعظامًا له، وتعجبًا من حسن ترصيعه وتهيبًا لما فيه؛ وهو كقوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ الله} [الحشر: 21] فالتصدّع قريب من الاقشعرار، والخشوع قريب من قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} ومعنى لين القلب رقته وطمأنينته وسكونه.{ذَلِكَ هُدَى الله} أي القرآن هدى الله.وقيل: أي الذي وهبه الله لهؤلاء من خشية عقابه ورجاء ثوابه هدى الله.{وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي من خذله فلا مرشد له.وهو يرد على القَدَرية وغيرهم.وقد مضى معنى هذا كله مستوفى في غير موضع والحمد لله.ووقف ابن كثير وابن محيصن على قوله: {هَادٍ} في الموضعين بالياء، الباقون بغير ياء. اهـ.
ولا يخفى وجه ضعفه هنا {إِنَّ في ذَلِكَ} إشارة إلى ما ذكر تفصيلًا، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه {لِذِكْرِى} لتذكيرًا عظيمًا {لأوْلِى الألباب} لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيهًا لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك حال الحياة الدنيا وسرعة تقضيها فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنتها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء والتصرف به على أتم وجه قادر على إجراء الأنهار من تحت تلك الغرف، وكأن الأول أولى ليكون ما تقدم ترغيبًا في الآخرة وهذا تنفيرًا عن الدنيا، وقيل المعنى إن في ذلك لتذكيرًا وتنبيهًا على أنه لابد لذلك من صانع حكيم وأنه كائن على تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال وهو بمعزل عما يقتضيه السياق على أن الأنسب بإرادة ذلك ذكر الآثار غير مسندة إليه عز وجل فحيث ذكرت مسندة إليه سبحانه فالظاهر أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى أو شؤون آثاره حسبما أشير إليه لا وجوده جل وعلا.{أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} الخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولى الألباب، والشرح في الأصل البسط والمد للحم ونحوه ويكنى به عن التوسيع، وتجوز به هنا عن خلق النفس الناطقة مستعددة استعدادًا تامًا للقبول بجامع عدم التأبي عن القبول وسهولة الحصول وذلك بعد التجوز في الصدر، وإرادة النفس الناطقة منه من حيث إنه محل للقلب وفي تجويفه بخار لطيف يتكون من صفوة الأغذية وبه تتعلق النفس أولًا وبواسطته تتعلق بسائر البدن تعلق التدبير والتصريف، وتلك النفس هي التي تتصف بالإسلام والإيمان، وجعل بعض الأجلة شرح الله صدره استعارة تمثيلية، والهمزة للإنكار دالة على محذوف على أحد القولين المارين آنفًا، والفاء للعطف على ذلك المحذوف، وخبر من محذوف لدلالة ما بعده عليه والتقدير أكل الناس سواء فمن شرح الله تعالى صدره وخلقه مستعدًا للإسلام فبقي على الفطرة الأصلية ولم تتغير بالعوارض المكتسبة القادحة فيها {فَهُوَ} بموجب ذلك مستقر {على نُورٍ} عظيم {مّن رَّبّهِ} وهو اللطف الإلهي المشرق عليه من بروج الرحمة عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية والتوفيق للإهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بتبديل فطرة الله تعالى بسوء اختياره واستولى عليه ظلمات الغي والضلال فأعرض عن تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها، وعدل عن فعنده أو فله نور إلى ما في النظم الجليل للدلالة على استمرار ذلك واستقراره في النور وهو مستعار للطف والتوفيق للاهتداء، وقد يقال: أمر إليه غير اللطف والتوفيق يدرك به الحق؛ وجاء برواية الثعلبي في تفسيره والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ} الخ فقلنا: يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح» قلنا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال: «الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله».واستشكل ذلك بأن ظاهر الآية ترتب دخول النور على ألا نشرح، لأنه الاستعداد لقبوله وما في الحديث الشريف عكسه والظاهر أن السؤال عما في الآية وأن الجواب بيان لكيفيته.وأجيب بأن الإهتداء له مراتب بعضها مقدم وبعضها مؤخر وانشراح الصدر بحسب الفطرة والخلق وبحسب ما يطرأ عليه بعد فيض الألطاف عليه وبينهما تلازم، والمراد بانشراح الصدر في الحديث ما يكون بعد المكن فيه، وفي الآية ما تقدم وقس عليه النور، والجواب من قبيل الأسلوب الحكيم فتأمل.{فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله} أي من أجل ذكره سبحانه الذي حقه أن تلين منه القلوب أي إذا ذكر الله تعالى عندهم أو آياته عز وجل اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة.وقرئ {عَن ذِكْرِ الله} والمتواترة أبلغ لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبيًا من قبوله من القاسي عنه بسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ذكر شرح الصدر لأن توسعته وجعله محلًا للإسلام دون القلب الذي فيه يدل على شدته وإفراط كثرته التي فاضت حتى ملأت الصدر فضلًا عن القلب، وإسناده إلى الله تعالى الظاهر في أنه على أتم الوجوه لأنه فعل قادر حكيم وقابله بالقساوة مع أن مقتضى المقابلة أن يعبر بالضيق لأن القساوة كما في الصخرة الصماء تقتضي عدم قبول شيء بخلال الضيق فإنه مشعر بقبول شيء قليل، وعدل عن التعبير بما يفيد مجعولية القساوة له تعالى وخلقه إياها للإشارة إلى غاية لزومها لهم حتى كأنها لو لم تجعل لتحققت فيهم بمقتضى دواتهم، وإما إسنادها إلى القلوب دون الصدور فللتنصيص على فساد هذا العضو الذي إذا فسد فسد الجسد كله، واعتبر الجمع في هؤلاء الكفرة والإفراد في أولئك المؤمنين حيث قال سبحانه: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ} دون أفمن شرح الله صدورهم للإشارة إلى أن المؤمنين وإن تعددوا كرجل واحد ولا كذلك الكفار.{أولئك} البعداء المتصفون بما ذكر من قساوة القلوب {فِى ضلال مُّبِينٍ} ظاهر كونه ضلالًا لكل أحد، والآية نزلت في علي وحمزة رضي الله تعالى عنه ممن شرح الله تعالى صدره للإسلام وأبو لهب وابنه من القاسية قلوبهم.{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} هو القرآن الكريم، وكونه حديثًا بمعنى كونه كلامًا محدثًا به لا بمعنى كونه مقابلًا للقديم، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام، وجوز أن يكون إطلاق الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة.عن ابن عباس أن قومًا من الصحابة قالوا: يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت، وعن ابن مسعود أن الصحابة ملوا ملة فقالوا له عليه الصلاة والسلام حدثنا فنزلت أي إرشادًا لهم إلى ما يزيل مللهم وهو تلاوة القرآن واستماعه منه صلى الله عليه وسلم غضًا طريًا.وفي إيقاع اسم الله تعالى مبتدأ أو بناء {نَزَّلَ} عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على أحسنيته وتأكيد لاستناده إلى الله عز وجل وأن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه، أما التفخيم فلأنه من باب الخليفة عند فلان، وأما الاستشهاد على أحسنيته فلكونه ممن لا يتصور أكمل منه بل لا كمال لشيء ما في جنبه بوجه، وأما توكيد الاستناد إليه تعالى فمن التقوى، وأما إن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه فلمكان التناسب لأن أكمل الحديث إنما يكون من أكمل متكلم ضرورة، ومذهب الزمخشري أن مثل هذا التركيب يفيد الحصر وأنه لا تنافي بينه وبين التقوى جمعًا فافهم.
|